(( وخلأت القصـــواء )) مواقف لن تتكرر إلى يوم القيــــامة
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بألف وأربعمائة رجل من المدينة يريدون العمرة في السنة السادسة من الهجرة لم يكن مع هذا الجمع المبارك من السلاح إلا السيوف، وقد ساقوا معهم الهدي (الذبائح)؛ ليظهروا حسن نيتهم ويُعْلِموا أهل مكة أنهم جاءوا حاجين إلى البيت وزائرين له، ولم يأتوا لحرب أو قتال، بل لأداء العمرة.
ومع ذلك فارت قريش غضباً وغيظاً وصدتهم عن البيت العتيق ومنعتهم عن العمرة وتعاهدوا على القتال بل خرجت بعض السرايا لتقاتل !
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة هذا التعنت وسمعوا عن هذه الجموع التي خرجت لقتالهم برغم إنهم جاؤوا معتمرين محرمين لا يبغون قتالاً ، تعاهدوا على صد هذا العدوان وعزموا على الجهاد ، ولكنه صلى الله عليه وسلم أخذ طريقاً آخر حتى لا يصطدم مع المشركين الثائرين حقناً للدماء لأطول وقت ممكن فلعلهم يرجعون عن غيهم .
وبينما رَكْبُ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يسير بأمر الله تعالى بركت الناقة التي يركبها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكان قريب من مكة يسمى الحديبية فقال الصحابة: خلأت القصواء ، خلأت القصواء (اسم ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم)..
فقال صلى الله عليه وسلم: (م خلأت القصواء وما ذلك لها بخلق، لكن حبسها حابس الفيل) [البخاري]
وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى لا يريد له دخول مكة، ولا الصدام مع قريش في ذلك الوقت، فقرر التفاوض مع قريش في شأن دخول المسلمين مكة لزيارة البيت الحرام، وقال: (والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)
في هذا الموقف العظيم وكذلك في المواقف التي سأسوقها في ثنايا هذا الموضوع لاحقاً من خلال رحلة الرسول المباركة تلك وخاصة إننا نعيش نفس هذه الأيام المباركة يبرز لنا مدى التسليم التام من النبي صلى الله عليه وسلم بما يأمره الله به وكذلك تسليم الصحابة رضوان الله عليهم لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وطاعتهم له ، رغم عدم اقتناع البعض بما يرى ويشاهد ويعلم وكذلك تتجلى مدى حبهم لدينهم ولرسولهم ومدى تعظيمهم لشعائر الله تعالى
فرغم إن النبي والصحابة تعاهدوا على الجهاد والقتال إلى آخر رجل منهم سلموا أمرهم إلى إشارة من الله تعالى فقط عندما بركت القصواء !
فطف معي بلحظات رائعة كروعة الأشخاص الذين نتحدث عنهم فهي حتماً تستحق أن تقرأ علينا وعلى الأجيال القادمة إلى يوم القيامة فإنها مواقف لا تتكرر ولا تمل ...
لقد بذل الرسول صلى الله عليه وسلم ما في وسعه لإفهام قريش أنه لا يريد حرباً معهم، وإنما يريد زيارة البيت الحرام وتعظيمه، وهو حق المسلمين، كما هو حق لغيرهم، وعندما تأكدت قريش من ذلك أرسلت إليه من يفاوضه ويتعرف على قوة المسلمين ومدة عزمهم على القتال إذا ألجئوا إليه، وطمعاً في صد المسلمين عن البيت بالطرق السلمية من جهة ثالثة
فأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي - عم الصحابي المغيرة ابن شعبة-
فلما جاء عروة ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم وقف مبهورًا من طاعة المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتماسكهم وقوة إيمانهم
فعاد إلى قومه يقول لهم: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على كسرى وقيصر والنجاشي، وإني والله ما رأيت ملكًا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا، والله ما تَنخَّم (بصق) نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلَّك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وما يحدُّون النظر إليه تعظيمًا له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
وانظروا لعظمة هذا الموقف فعندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ليشرح لقريش ما يريده المسلمون ، عرض المشركون على عثمان أن يطوف وحده بالبيت، ولكنه رفض أن يطوف وحده دون رسول الله والمسلمين وقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتبسته قريش عندها، فلما طالت غيبته ظن المسلمون أن الكفار قتلوه، فاجتمعوا حول نبيهم صلى الله عليه وسلم وبايعوه على القتال حتى الاستشهاد في سبيل الله وعلمت قريش بهذه النية، فخافت وأطلقت عثمان على الفور
وفيهم نزل قوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحًا قريبًا}
وهل هناك أعظم من رضوان الله تعالى ؟ لقد فازوا والله ونجحوا بفضلهم تسليمهم وإخلاصهم وحبهم لنبيهم ونالوا بذلك أعظم هديتين الرضوان والفتح ..
ويالها من هدايا تتوق الأنفس وتقاتل من أجلها وتبذل الغالي والنفيس في سبيلها.
وإلى موقف آخر عظيم في رحلتنا المباركة
أرسلت قريش سهيل بن عمرو، وكان رجلا فصيحًا عاقلاً يجيد التفاوض، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم قال متفائلاً: ( لقد سهل لكم أمركم).
وقال: ( قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل)
وكانت قريش قد قالت لسهيل بن عمرو: ائت محمداً فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً.
فلما جاء سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلما طويلاً ثم جري بينهما الصلح، فاتفق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على:
- أن يرجع المسلمون هذا العام ويعودوا في العام القادم.
-وأن تتوقف الحرب بينهما لمدة عشر سنوات.
-وأن من أراد أن يتحالف مع المسلمين فله ذلك، ومن أراد التحالف مع قريش فله ذلك.
-وأن يرد الرسول صلى الله عليه وسلم من جاء إليه من قريش دون إذن وليه، ولا ترد قريش من يأتيها من المسلمين.
ولقد غضب المسلمون من هذه الشروط وحزنوا من قبولها ومن بينهم عمر بن الخطاب عملاق الإسلام فعندما سمع عمر بهذه الشروط أتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر أليس برسول الله؟
قال: بلي.
قال: أو لسنا بالمسلمين؟
قال: بلى. قال: أو ليسوا بالمشركين؟
قال: بلي. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله.
قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله. [متفق عليه].
ويحكي لنا عمر بن الخطاب بنفسه مجيئه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غاضباً عند كتابة ذلك الصلح، قال: فأتيت نبي الله، فقلت: ألست نبي الله حقاً ؟
قال: بلى.
قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟
قال: بلى،
قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟
قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري.
قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟
قال: بلى. أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ قال: قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به).
ومن ثم أتى عمر أبا بكر كما ذكرنا سابقاً وقال عمر: ما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيراً ) ولم تطب نفس عمر إلا عندما نزل القرآن مبشراً بالفتح.
ياله من تسليم تام ، وما أعظمهم من رجال إنها مواقف لا تأتي إلا من رجال اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ..
كل موقف أعظم من سابقه ، تتبين فيها مدى عظمة هذا الدين وشعائره في قلوب تلك الفئة العظيمة من الناس
فهاهو علي بن أبي طالب يأبى أن يمسح جملة رسول الله ..
فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وقال له اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم. فكتبها، ثم قال: اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو.
فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
فقال صلى الله عليه وسلم: اكتب. هذا ما صالح عليه محمدُ بن عبدالله، سهيلَ بن عمرو.
فرفض على أن يمحو كلمة رسول الله بعد ما كتبها، فمحاها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه . [متفق عليه].
وقبل أن يوقع الرسول صلى الله عليه وسلم على كتاب الصلح إذا بأبي جندل بن سهيل بن عمرو – وهو ابن سهيل هذا الذي جاء يفاوض - يأتي مسلمًا فلما رآه أبوه سهيل؛ قام إليه فضرب وجهه، وأخذ بثيابه، ثم قال: يا محمد، قد لجت القضية (أي حسمت) بيني وبينك قبل أن يأتي هذا.
قال: صدقت.
فأخذ سهيل يجر ابنه ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟
فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم)
وغضب المسلمون من هذا الصلح، فقد بَدَت الشروط في أعينهم ظالمة، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يُضَيِّعني) [البخاري].
وموقف آخر عظيم تتجلى فيه سنة الإتباع للنبي صلى الله عليه وسلم فبرغم إن المسلمين خرجوا من ديارهم يريدون العمرة وقد أحرموا وابتعدوا عن أهليهم وأولادهم أكثر من شهر ، ومع شعورهم بالظلم الذي وقع عليهم من تلك الاتفاقية ، وإحساسهم بأنهم على الأقل لو فازوا بعمرة برغم تلك الشروط لكان ذلك تعزية لهم مع كل هذا هاهو المنادى ينادي عليهم أن يذبحوا هديهم ويحلوا إحرامهم ، وهذا معناه أن أمر العمرة انتهى وذهب جهدهم وتعبهم سدى
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتابة المعاهدة، قال للمسلمين: (قوموا، فانحروا) وقالها ثلاثًا وطارت الكلمة بين الصحابة الألف والأربعمائة هنا وهناك ، فلم يقم أحد ولم ينفذوا الأمر
فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم، ودخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس
فدلته أم سلمة على أسهل الطرق وأيسرها ، فهي تعلم أن هؤلاء القوم يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم حذو القذة بالقذة ولن يتوانوا عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهم مصدومون ومحبطون ومع ذلك فلو رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك لقاتلوا في تقليده ..
فقالت: يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدًا كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالقك فيحلقك.
فقام الرسول صلى الله عليه وسلم وخرج فلم يكلم أحدًا حتى نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا يتسابقون فنحروا إبلهم، وجعل بعضهم يحلق لبعض فسعد الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك جداً ودعا للمحلقين بالرحمة ثلاثاً
ولكن هل التزم المسلمون والمشركون بشروط هذه المعاهدة؟
لقد ضاق المسلمون المعذبون في مكة بمقامهم بعيدًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين في المدينة، ففر منهم أبو بصير عبيد الله بن أسيد، وهاجر إلى المدينة يبغي المقام فيها مع المسلمين فأرسلت قريش وراءه اثنين من رجالها، ليعودا به إليها تنفيذًا لشروط الصلح
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، فانطلق إلى قومك)
وحزن أبو بصير وقال: يا رسول الله أتردني إلى المشركين ليفتنوني في ديني؟ فلم يزد النبي صلى الله عليه وسلم عن تكرار رجائه في الفرج القريب، ثم أرسل أبا بصير مع القرشيين ليعودوا جميعًا إلى مكة، فاحتال أبو بصير أثناء الطريق على سيف أحد الحارسين وقتله به، ففر الآخر مذعورًا، ورجع إلى المدينة يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع من أبي بصير
وإذا بأبي بصير يطلع شاهرًا السيف يقول: يا رسول الله، وفت ذمتك وأدى الله عنك، أسلمتني بيد القوم وامتنعت بديني أن أفتن أو يعبث بي
فقال صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه (كلمة مدح) مُسَعِّرُ حرب (أي مشعل حرب) لو كان معه رجال)
ففهم أبو بصير نية الرسول صلى الله عليه وسلم في رده إلى المشركين،
وأدرك أنه لا مقام له في المدينة، ولا مأمن له في مكة، فانطلق إلى ساحل البحر في ناحية تدعي (العيص) وشرع يهدد قوافل قريش بطريق الساحل
وفهم المستضعفون المسلمون في مكة إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم: ( مسعر حرب ولو كان له أحدا) فتلاحقوا به حتى اجتمع إليه نحو سبعين ثائرًا كان منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وكونوا جيشًا ضَيقَ على قريش فلا يظفر بأحد إلا قتله، ولا تمر بهم قافلة إلا اقتطعوها
فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده أن يؤوي إليه هؤلاء فلا حاجة لها بهم.
وبذلك نزلت قريش عن الشرط الذي أملته تعنتًا وقبله المسلمون كارهين، وهذا هو أول الفتح على المسلمين، فقد تأكد لهم بعد ذلك أن المعاهدة كانت لصالحهم، وأنها أتاحت لهم فرصة لنشر دينهم بعيدًا عن الانشغال بالحرب مع قريش.
وموقف آخر عظيم نستمتع به حول مائدة الصحابة العظام الكبار ، فوالله ما وصل الدين إلينا إلا بسبب جهودهم وإخلاصهم وعظمتهم وحسن اتباعهم وتسلميهم لربهم ونبيهم عليه الصلاة والسلام
فعندما كان أبو جندل وأبو بصير وأصحابهما في المكان الذي اجتمعوا فيه عند ساحل البحر، مرت بهم قافلة تجارية لقريش بقيادة أبي العاص بن الربيع زوج السيدة زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت قد فارقته؛ لأنه كان مشركًا، وهاجرت وحدها إلى المدينة.
فهاجم أبو جندل ومن معه القافلة وأسروهم وأخذوا ما معهم من أموال، ولم يقتلوا منهم أحدًا إكرامًا لأبي العاص، وأخلوا سبيله
فقدم أبو العاص المدينة واستجار بزينب، فكلمت زينب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب قائلا: (إنا صاهرنا أناساً، وصاهرنا أبا العاص، فنعم الصهر وجدناه، وإنه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش، فأخذهم أبو جندل وأبو بصير، وأخذوا ما كان معهم، ولم يقتلوا منهم أحدًا، وإن زينب بنت رسول الله سألتني أن أجيرهم، فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه؟)
فقال الناس: نعم. فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول الرسول صلى الله عليه وسلم أطلقوا من كان عندهم من أصحاب أبي العاص وردوا إليهم أموالهم.
ثم خرج أبو العاص حتى قدم مكة، فأدى إلى الناس بضائعهم، ثم أعلن إسلامه، وعاد أبو العاص إلى المدينة مسلمًا، فرد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم زوجته زينب -رضي الله عنها-.
وأخيراً .. قد يشتاق البعض لمعرفة مصير ذلك المفاوض الصعب - سهيل بن عمرو – الذي قال عنه الرسول لما رآه : ( قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل)
لقد كان سهيل هذا من أشد الناس عداوة للإسلام والمسلمين في صدر الإسلام، حارب الإسلام بيده ولسانه، ووقف في كثير من المواقف صلباً متشدداً لا يلين.
نشأ بجوار الكعبة ينحر بيده الذبائح لأصنامها ويستقبل الحجيج إليها وهم يأتون زرافات ووحدانا
وقع أسيراً بأيدي المسلمين في “غزوة بدر
اقترب عمر بن الخطاب” من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: “يا رسول الله.. دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو حتى لا يقوم عليك خطيباً بعد اليوم”..
فأجابه الرسول العظيم: “كلا يا عمر.. لا أمثل بأحد، فيمثل الله بي، وإن كنت نبياً”!
ثم أدنى عمر منه، وقال صلى الله عليه وسلم: “يا عمر.. لعل سهيلاً يقف غداً موقفاً يسرك”!
وعند فتح مكة لما خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم زعماء مكة وأسيادهم قائلاً لهم : ما تظنون إني فاعل بكم هنالك تقدم خصم الإسلام بالأمس “سهيل بن عمرو” وقال مجيباً: “نظن خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم”.
وتألقت ابتسامة من نور على شفتي حبيب الله وناداهم:
“اذهبوا.. فأنتم الطلقاء”..!
لم تكن هذه الكلمات من الرسول المنتصر لتدع إنساناً حي المشاعر إلا أحالته ذوباً من طاعة وخجل، بل وندم..
وفي نفس اللحظة استجاش هذا الموقف الممتلئ نبلاً وعظمة، كل مشاعر “سهيل بن عمرو” فأسلم لله رب العالمين.
وتحول واحد من كبار زعماء قريش وقادة جيوشها،وخطيبها المفوه إلى مقاتل صلب في سبيل الإسلام.. مقاتل عاهد نفسه أن يظل في رباط وجهاد حتى يدركه الموت على ذلك، عسى الله أن يغفر ما تقدم من ذنبه
وصدقت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ووقف سهيل بن عمرو في ذلك الموقف العظيم الذي يسر .
وقد سر به عمر بن الخطاب فعلاً والمسلمون جميعاً حين قام سهيل على باب الكعبة يوم أراد الناس أن يرتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وصاح بالناس فاجتمعوا إليه فقال: يا أهل مكة لا تكونوا آخر من أسلم وأول من ارتد والله ليتمن الله هذا الأمر كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلقد رأيته قائماً مقامي هذا وحده وهو يقول: “قولوا معي لا إله إلا الله تدين لكم العرب، تؤدي إليكم العجم الجزية والله لننفقن كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله..
فكنا بين مستهزئ ومصدق، فكان ما رأيتم، والله ليكونن الباقي”.
فامتنع الناس عن الردة.
وكان يقول: والله لا أدع موقفًا وقفته مع المشركين إلا وقفت مع المسلمين مثله، ولا نفقة أنفقتها مع المشركين إلا أنفقت على المسلمين مثلها، لعل أمري أن يتلو بعضه بعضًا..